الأحد، 11 أغسطس 2019

حكايات عن التعليم المرن (4)

<تنويه نشر هذا المقال أصلا في موقع ساسة بوست في هذا الرابط >
تكلمنا في المقال السابق عن الجوانب المعرفية المهمة لمن يريد تعليما أفضل، ورأينا أن هذه المعارف متعددة ومتشعبة، كما أن تطور العلم الحديث سيخرج لنا المزيد والمزيد من النظريات حول نفسية الإنسان وكيفية تعلمه. وهو ما يجعلنا نعيد التوكيد على أهمية التعلم المستمر بالتوازي مع تعليم أبنائكم، بل بالتوازي مع كل أنشطة الحياة. 
والآن نبدأ التعرض للجانب التطبيقي، وماهي أهم العناصر في تكوين منظومة التعليم المرن الخاصة بكم. فمن أهم
النقاط التي ينبغى إدراكها هو أن التعليم المرن يأخذ شكلا خاصا ومميزا في كل أسرة، بحسب ما فيها من إمكانات ومواهب وغيرها من الظروف المختلفة. 
ولهذا لا ننصح بمحاولة “تقليد” خطة وضعتها أسرة ما للتعليم المرن، قد يمكنك أن تستقي منها أو أن تعتبرها مثالا عمليا، ولكن عليك أنت أن تكيف التعليم المرن ليناسبك وأسرتك. ولهذا ننصحك بقراءة هذا المقال المترجم

أولا: أسرة عالية الكفاءة

إن ثروات الأسرة تتلخص في وقتها الفعال (1) وقدراتها المادية وكفاءات ومواهب أفرادها والجو الأسري المتناغم. ومنظومة التعليم المرن –برغم كل فوائدها- تحتاج إلى الكثير من التفكير والتطوير والجهد في البحث. حين تضع هذا في الصورة مع الحياة في مجتمع تغلبت عليه العشوائية والتعطل المروري، والزحام في أماكن الخدمات … الخ،
ستجد أن الهدف الأول للأسرة هو قدرتها على إدارة وقتها وجهدها لتتمكن من تنظيم التعليم المرن وتطبيقه. 
التحسين المستمر في نظام الأسرة ومتابعة ذلك لتحقيق أعلى كفاءة ممكنة (والكفاءة هنا نعني بها توفير الوقت والجهد والتكاليف للقيام بنفس المهام المنزلية) هو من أهم نقاط البداية في التطبيق الفعلي للتعليم المرن. 
على الأبوين متابعة ذلك، وخاصة في المهام المتكررة (مثلا في شراء البقالة، في أداء المهام المنزلية، في النوم والاستيقاظ … الخ). كل جهد تبذله في هذا الباب يوازيه المزيد من التحسين في المهام التعليمية التي تحتاج لعملها. 
أمثلة : الشراء بالجملة ومرة واحدة بقوائم معدة مسبقا للاحتياجات المنزلية، استخدام أدوات أفضل للتنظيف المنزلي السريع، إدراج الأطفال في مهام المنزل، شراء الكتب المستعملة وبالجملة أيضا، التبادل مع الأصدقاء في المشاوير المشتركة (شراء كتب أو أدوات تعليمية …)، إعادة ترتيب الأثاث المنزلي لتكوين أماكن أوسع أو مخصصة لنشاط معين، وغيرها من التحسينات التي توفر الوقت والجهد (لمن يحب الاستزادة، إليكم هذه القائمة من المقالات ولكنها بالانجليزية للأسف). 
ومن الأمور المهمة التي ينبغي الانتباه إليها هو استغلال هذه الأوقات في تعليم الأطفال المشاركة والعناية بالمنزل، وفي التوفيق بينهم، والأهم من ذلك هو استغلالها للتعرف على شخصيات أطفالكم ، وماهي قدراتهم وميولهم. 
في المقال السابق تحدثنا عن أهمية فهم نمط شخصية الطفل، وماهي مستويات ذكائه، وماهي ميوله؟ هذه الأمور قد يسهل قياسها عند الناضجين بالاعتماد على الاختبارات القياسية التي أعدها العلماء المختصين. 
ولكن في حالة الأطفال يصعب هذا لعدم اكتمال قدرتهم على التعبير والنظر بصدق للنفس والنضج الكافي لتقبل النفس كما هي. والحل البديل للاختبارات في هذه الحالة، أن تتم ملاحظتهم بشكل مستمر وفي مواقف مختلفة، ثم يتم استقراء واستنتاج طبائعهم من خلال تصرفاتهم وردود أفعالهم. 
وبالطبع فإن الأفضل في هذه الحالة أن يتم ذلك على يد مختصين بعلم نفس الأطفال، ولكن إذا تعذر ذلك، فيمكن للأبوين أن يقوما هما بهذا الدور، بشرط الاطلاع المتكرر والمتعمق في هذه الموضوعات كما نوهنا من قبل، كما يمكنهم الالتحاق بالمراكز التي تقوم بتدريس دبلومات تربوية تعطيهم من الوعي والمعرفة ما يمكنهم من استخدام الاستقراء بنجاح مع أطفالهم. 

ثانيا: الخطة التعليمية

لابد للأسرة أن تتحرك على هدى خطة منظمة وواضحة. وأهم ما يعينك في وضع هذه الخطة هو معرفة الأهداف التي تسعى إليها الأسرة، والجدول الزمني، وطريقة التنفيذ. ومن المهم توضيح أن وضع خطة وجدول زمني لا يعني الجمود والتشبث بمواعيد ثابتة إجبارية أو تحجيم الأسرة عن اختيارات مختلفة أو تنويع الأنشطة. ما نقصده بالخطة هنا هو المسار العام أو الحالة الأصلية للأسرة والتي لا تتحرك عنها إلا قليلا ثم تعود إلى المسار مرة أخرى. 
الأهداف
الأهداف التعليمية والمهارية والأخلاقية هي قائمة بما تريد الأسرة تحقيقه مع أطفالها. وهناك طريقتان لتحصيل هذه الأهداف : إما تحديدها أولا بما يناسب الأبوين والطفل، أو الحل الأسهل في أن يتم اختيار منهج مرشح أو شهد له من استخدمه، ثم يقوم الأبوان باستخراج الأهداف منه . 
من الممكن كذلك عمل بحث سريع على شبكة الانترنت والحصول على القوائم المعتادة للأهداف التعليمية في كل مادة، ثم الجمع بين القوائم في قائمة موحدة تلائم الأبوين والأطفال. للمزيد عن الأهداف التعليمية يمكنكم مراجعة هذا الرابط
-الجدول الزمني
اختيار الجدول الزمني بطريقة سليمة من أهم عوامل النجاح، فهو ما يضمن أن الأسرة تسير بشكل جيد ولا تضيع الوقت في “السنكحة” العشوائية، كما أنه يسهل عليها متابعة تقدمها مع مرور الأيام. 
والنصيحة الأهم هنا هو أن يكون الجدول واقعيا ويمكن تطبيقه، فما أسهل أن تضع جدولا ضخما خرافيا ثم تجد نفسك لا تحقق منه إلا القليل فتصاب بالإحباط الذي قد يؤدي لانهيار منظومتك التعليمية تماما. 
وأسهل الطرق في التحقق من صحة الجدول أو في توقع مدى القدرة على تنفيذه، أن تقوم مع أسرتك بتطبيق الجدول تجريبيا لمدة أسبوعين، مع ملاحظة كفاءة الجدول، وتقبل الأطفال له، وهل يسير بسلاسة أم أن هناك ما يعوق ذلك، ثم بعدها يمكنك تعديل الجدول إذا لزم الأمر ومن ثم البدء في التطبيق العملي. بالإضافة إلى ذلك، ننصح بوضع أماكن مرنة في الجدول (أي مخصصة للتنويع وليست خاصة بنشاط معين) كما يفضل أن يختلف شكل الجدول من يوم إلى آخر لمنع ملل الأطفال. 
-الفلسفة التعليمية
وأخيرا، بينما تخطط لتنفيذ خطتك بعد تطبيق النصائح أعلاه يجب عليك أن تختار : كيف ستتناول التعليم؟ هل تطبق مونتسوري مثلا؟ أم أنك تفضل النظام التقليدي (المدرسة في المنزل)؟ أم ستقوم انت بعمل طريقة تجمع بين المزايا التي أعجبتك في الطرق التي تكلمنا عنها في المقال السابق؟ 
كما قلنا، الخطة المناسبة لك هي ما تضعه أنت، فلا يوجد اختيار صائب لكل الأطفال ولكل الأسر. ولكن من المهم جدا أن يتم إدماج التفكير الناقد، وأدوات التفكير، والإبداع في التدريس. بحيث مثلا حين تدرس مع الطفل أحد الدروس، تقوم بتشجيعه على التساؤل والتفكير النقدي، أو تقوم باستخدام أدوات التفكير من أجل استكشاف البدائل المختلفة…الخ (مثال: حين تقوم بتدريس الطفل عن الحقبات التاريخية المسماة “بالجمع والالتقاط” حين كان الناس يضطرون للسير بحثا عن الثمار قبل انتشار الزراعة. قم بسؤاله: لماذا يفعلون ذلك؟ هل هناك طرق أخرى للغذاء؟ مارأيك لو رجعنا بآلة الزمن لنفتح لهم مطعما؟ ….) والهدف من تلك الأسئلة أنها تثير نشاط الطفل، وتدفعه للمشاركة، وتنمي عنده الإبداع، والتفكير في الأسباب والنتائج. 

ثالثا: بناء البيئة التعليمية

البيئة التعليمية هي ما يحيط بالطفل ويستخدمه خلال دراسته وخلال لعبه أيضا،  ففي التعليم المرن كل نشاط في الحياة يدخل في دائرة التعلم . 
إن بناء البيئة التعليمية المناسبة للطفل يعتبر من أكثر الأمور التي تستغرق وقتا وتفكيرا من الأبوين، حيث ينبغي أولا أن يعرفا الألعاب والأنشطة التي تناسب عمر الطفل، وأن يقوما بالتفكير في كيفية تنفيذ وبناء هذه البيئة بدون تكاليف مرهقة. ثم يقوما بتجميع مكوناتها وإنشاء هذه البيئة التعليمية الفريدة. 
ففي حالة الطفولة المبكرة، يحيط الأبوين طفلهما بألعاب تنمي حواسه المختلفة، وتدخل السرور عليه، ووسائل تعليمية مثل الكروت التعليمية مثلا، وبيئة آمنة للطفل في الزحف والوقوع أرضا وغيرها من الأنشطة. 
بعدها تبدأ البيئة بالتغير، لتظهر القصص المبسطة، وأدوات اللعب الأكثر تعقيدا مثل البازل أو المكعبات والمنظار المقرب أو التيليسكوب. 
بعد ذلك تظهر القصص والروايات والكتب المبسطة، كما تظهر أيضا وسائل تعليمية مثل الكرة الأرضية الدوارة والميكروسكوب وغيرها من الأدوات. ومع كل مرحلة عمرية تزداد نسبة مشاركة الطفل في تصميم هذه البيئة واختيار ما فيها وصبغها بصبغته الخاصة. 
يجب أن تكون هذه البيئة ثرية ومتنوعة بما يكفي لمنح الطفل خبرات جديدة في حياته يتعامل معها العقل وينضج ويتسع أفقه مع كل تلك المكونات في بيئته. كما يجب أن تكون مشجعة على النشاط والتفاعل والعمل (بدلا من المشاهدة السلبية للتلفاز، والتي يلجأ إليها الآباء لإراحة أنفسهم من إلحاح الطفل أو كثرة كلامه!). 
ومن المهم أن يكون التغيير من بيئة إلى أخرى قائم على دراسة، وأن يكون بالتدريج ، لكي لا يشعر الطفل بغرابة أو أنه قد نقل قسرا من وضع إلى آخر، وحاولوا مشاورته لتعرفوا إن كان أحد مكونات البيئة محبب جدا لديه ولا يريد التفريط فيه (وهي أيضا فرصة جيدة لملاحظة تصرف الطفل ورد فعله مما يساعدكم على مزيد من التحديد لميوله ومواهبه).
يمكنكم مراجعة بعض الأمثلة الرائعة على ذلك في هذا الرابط.

رابعا: الحرص على الاستقلالية

لاشك أن القاريء قد بدأ يقلق الآن (وغالبا بدأ القلق منذ المقال السابق كما اتضح لي من التعليقات!) وشعر أن الأمر أكبر من طاقته. ولكن أطمئنكم أن الأمر قابل للتحقيق وعلى قدر الجهد ستجد النتائج إن شاء الله. ولكن كما تكلمنا في أول المقال، ينبغي دوما الحرص على رفع كفاءة الأسرة وتحسين إدارة الوقت والجهد. 
ولهذا لا ينبغي أبدا أن يترك الأبوان كل الجهد يقع على عاتقهما، وخاصة مع تعدد الأطفال. فكما يجب أن يحسنا توظيف الوقت عموما، فيجب أيضا أن يتحمل الأطفال المسؤولية بالتدريج، ليمكنهم تولي جزء كبير من دراستهم، وليمكنهم أيضا المباردة والبحث في موضوعاتهم في الكتب أو على محركات البحث المناسبة لهم، كما يساعدون أيضا في حمل الأعباء المنزلية، بحسب القدرة والعمر

خامسا: مصادر مساعدة

وأخيرا ستحتاجون مع ذلك كله بعد المصادر والخدمات التي ستعينكم إن شاء الله على تحسين المنظومة التعليمية الخاصة بكم. فمثلا عند البحث عن المناهج والكتب الجيدة والمصادر التي تحتاجونها لتجديد طرق الشرح والعرض، يمكنكم الرجوع إلى شبكة الانترنت، والمكتبات العامة، ومدونة بنك معلومات التعليم المرن. التي قام فريقنا فيها بتجميع الكثير من المصادر والمواد والمناهج التي تمكنكم من استخدامها مباشرة أو الأخذ منها والتعديل عليها لتصبح عملية التعليم ممتعة ومشوقة للطفل. فما نريده هو طفل يتعلم وليس طفلا يذاكر أو يحل الواجب. 
كما أن من النقاط التي تثار بشكل متكرر حول الموضوع، مسألة تعويض الجانب الاجتماعي للطفل من عدم اختلاطه بزملائه، ولهذا ندعوكم دوما لبناء شخصيته بالاختلاط بالناس من خلفيات مختلفة، وأعمار مختلفة، وفي أنشطة مختلفة، وبالتأكيد ذلك أفضل كثيرا من حصره في علاقات مع مجموعة معينة (بدون اختيار منه) من الأطفال في سنه فقط ومن منطقة مجاوره له فقط (في الأغلب)! 
فالأفضل أن يرى ويتعامل مع كلالأعمارلأن هذه هي الحياة الواقعية. يمكن لطفلك أن ينطلق ليرى العالم من خلال الأنشطة والكورسات والتدريبات الرياضية في النوادي، ونرشح لكم المكتبات العامة في منطقتكم حيث تقوم بعمل الكثير من الأنشطة الطيبة، ويتعود الطفل على الذهاب للمكتبة أيضا. 
وقد حاولنا جمع قائمة – تحت التحديث – ببعض هذه الأماكن لتيسر على الأبوين الاختيار والبحث. كما يمكنكم دعوة هؤلاء الأطفال الذين يذهبون للمدرسة من وقت لآخر على عرض تعليمي مميز أو نشاط علمي لا يحضرون مثله في المدرسة عادة، فيشعر أطفالكم بالتميز كما يشبعون حاجتهم للقاء الأقران. 
وأخيرا، حاولنا في هذه السلسلة من المقالات أن نستكشف معا إمكانية التعليم بدون مدرسة، ولاشك أن الأمر أوسع مما عرضناه، ولكنه بحاجة منكم إلى البحث الجاد في سبيل الوصول إلى الأفضل لأبنائكم. وأترككم مع هذا المقال المترجم، والذي يتحدث عن خواطر إحدى الأمهات بعد مرور 16 سنة من تطبيق التعليم المرن في أسرتها. والسلام عليكم ورحمة الله.

هناك تعليقان (2):