الخميس، 19 مارس 2015

التعليم بين تزمت أكاديمي وتخبيط تطبيقي

من الأمور الملحوظة لكل قاريء في مجال التعليم بالعربية وما نشر فيه من كتب أن هناك انفصام شبه تام بين الأكاديميين (الباحثين وأصحاب الدرجات العلمية) في التعليم وبين التطبيقيين الذين يكتبون تجارب أو آراء أو رؤى خاصة بهم وغالبا ما لا تنضبط بقواعد البحث العلمي.
هذه الانفصالية مشكلتها في إحداث فجوة –وأشك في أنها غير متعمدة- بين ما يسعى إليه الكاتب الأكاديمي (الذي غالبا ما تجده يخلط بطريقة مزرية بين البحث العلمي والكتاب المطبوع) وبين الكاتب التطبيقي (الذي غالبا ما يكيف الشواهد لتوائم نظريته الشخصية عن التعليم وتطويره). وتكون النتيجة من وجود هذه الفجوة أن تكون كتب الأكاديميين على الرف, وينحصر التجديد في التطبيق على الجهود والرؤى الفردية للممارس التطبيقي أو لقاريء الكتب التطبيقية التي غالبا ما تتناقض مع بعضها أو تحوي مغالطات لأنها لم تكتب تحت إشراف علمي محايد ولا بأسلوب علمي رصين.

فمثلا قد تجد كتابا لإحدى صاحبات الدكتوراة في التعليم عن مهارات الاستذكار الفعالة. تفتح الكتاب فإذا بها قد نسخت رسالتها نصا بما تحويه من مقارنة بين التعريفات, وإيراد لنصوصها نقلا عن المراجع, وتكرار المشترك بينها لأنها –تبعا لقواعد الكتابة العلمية- لابد أن تنقل الكلام بنصه من المصدر... كل هذا مفيد ومهم في البحث العلمي المنضبط, ولكننا إذا أردنا أن نخرج إلى حيز التطبيق فلابد من تحوير الوثيقة العلمية وتغيير شكلها بحيث تكون مناسبة للمطالعة بهدف التطبيق العملي.
أيضا قد تفتح كتابا لأحد التطبيقيين, فتجده يغرق في وصف تجربته الشخصية أو رؤيته حول أسلوب التعليم السليم, ثم يورد كلمات مبهمة من نوعية "وتشير الأبحاث إلى كذا وكذا..." دون أن يشير إلى مصدر البحث ولا دقته ولا مدى حداثته, ولا كيفية التأكد من صحة ما استنتجه من كلام, فيكفي في نظره أن يقول كلمة الأبحاث لينبهر القاريء ويسلم بالرأي بلا تردد. وللأسف كثيرا ما نجد الكاتب يلوي النتيجة البحثية ليبرهن بها على ما يراه. ومادام المكتوب لم يتم مراجعته من جهة محايدة فيبقى هناك مجال متسع للشك في دقة الكاتب وتجرده.
وهكذا نجد أنفسنا مابين دائرتين مفرغتين: الأولى من كتاب أكاديميين يكتب بعضهم لبعض, فهم يتبادلون الأبحاث ويديلونها بينهم. والثانية من كتاب لا رابط بينهم تقريبا فكل منهم يكتب ويناقض الآخرين بل أحيانا يناقض نفسه, ثم يتركون ما كتبوا كغابة متشابكة للمعلم أو المربي الذي يريد تحسين العملية التعليمية.
إن هذه المشكلة الخطيرة هي من أهم عوامل جمود التطور التعليمي في  مجتمعنا لأنها تجعل القاريء إما مثقلا بقراءة النصوص الأكاديمية التي تحوي تفاصيل لا يحتاج إليها كمطبق للتعليم أو مشتتا بقراءة أهواء شخصية في التعليم لا يمكنه التأكد من دقتها وانضباطها علميا. ومن الدلائل على ذلك أننا نجد أغلب المعلمين بعد تخرجهم لا يطالعون أي أبحاث تعليمية تقريبا, فالمعلم ما بين التحضير والتصحيح والتدريس لا يجد وقتا لمطالعة الجديد, ولو وجد الوقت فلن يجد المصدر الذي يستقي نتائج هذه الأبحاث بطريقة جاهزة للتطبيق.
إنني حين أقارن هذه الحالة بما أقرؤه من مقالات أجنبية تقوم أساسا على استخراج نتائج الأبحاث العلمية ثم صياغتها بطريقة مشوقة وتحت عنوان ملفت, بحيث تأخذ خلاصة البحث فيما لا يزيد عن 800 كلمة أو 1000 كلمة, مع ذكر المصدر أو المصادر لمن أراد الاستزادة, حينما أطالع هذه المقالات في العديد من المواقع المتخصصة عن التعليم أدرك جيدا لماذا تحول التعليم عند هؤلاء من معبد مغلق على مهنته إلى قضية تهم كل أعضاء المجتمع من كل الأعمار والتخصصات.
لقد حان الوقت لهدم معبد التعليم المتحنط وتحويله إلى حديقة غناء منسقة, لا فوضى فيها ولا كهنوت. حان الوقت أن يقوم بعض المخلصين باستخراج كنوز البحث العلمي في التعليم, وأخذ نتائجه وطرحها لعموم المربين والمعلمين. حان الوقت لكي نجد معلمين ومربين يعلمون أن هناك ما يدعى بال Growth Mindset  و ال Deeper Learning  و المدارس المصممة بمفهوم ال Design thinking  وال  Project-Based Learning وأن هناك أبحاث ونتائج عملية عن الفارق بين الكتاب المطبوع والكتاب الإلكتروني, ومتى يصلح كل منهما, وأن هناك ألعابا تدرب أطفالكم على كل شيء من الجغرافيا إلى فن الجدال. حان الوقت ليكون المربي  المثقف حقيقة عادية وليس فلتة نادرة وجهد شخصي.
فلنغلق تلك الفجوة بين الأكاديمي والتطبيقي  وننشر غسيل التعليم بكل ألوانه على الملأ.


ملحوظة: إليكم بعض المصادر المهمة في تطوير التعليم والتي تقوم بما وصفته من دمج الأبحاث بالتطبيق المباشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق