الأحد، 11 أغسطس 2019

حكايات عن التعليم المرن (1)

<تنويه نشر هذا المقال أصلا في موقع ساسة بوست في هذا الرابط >

يظل التعليم واحدًا من أكبر مشاغل الأسرة في العصر الحديث، فقد صار للتعليم أكثر من أي وقت مضى تأثير كبير على حياة الإنسان، وفهمه للواقع، وقدرته على اكتساب المال والمكانة الاجتماعية، بل على صحته وسلامة نفسيته. صار التعليم ركيزة أساسية للحصول على وظيفة أو الالتحاق بمهنة ملائمة، وصار هو اللبنة الأهم في تكوين البناء
الاجتماعي والنفسي للإنسان المعاصر.
ومع خروج الحضارة البشرية من حقبات الزراعة والصناعة، والتوجه للمهن التي تتطلب تفكيرًا وإبداعًا من الأفراد العاملين بها، ظهرت للتعليم أبعاد جديدة لم تكن بالحسبان. فقد كان من المقبول والمُرضي جدًّا أن يدخل الشخص المدرسة أو الكتّاب ليتقن القراءة والكتابة وشيئًا من الحساب، ثم ينطلق بعدها في عالم الزراعة أو الصناعة أو التجارة، ويكوّن معارفه المتخصصة بالممارسة والتجربة.
أما في حقبة الإبداع الكبرى في التاريخ البشري، فقد صار من الواجب عليه أيضًا أن يتقن – إلى جانب تلك المهارات المعرفية- الكثير من المهارات الشخصية، والقدرة على استخراج الأفكار الجديدة، وحل المشكلات، والتعبير عن نفسه بصور مختلفة، وتنظيم وقته وإدارة شؤونة المالية التي صارت أكثر تعقيدًا من أي وقت آخر.
كما أن على الفرد في العصر الحديث أن يلم بالحد الأدنى من مجموعة معارف طبيعية وتقنية وجغرافية وسياسية, ذلك الحد الأدنى الذي يزداد ارتفاعًا في كل يوم، والذي يجب أن يلم به الفرد لكي يمكنه التشارك في الخلفية الثقافية مع من حوله، ويواكب تطورات مجتمعه؛ ليتمكن من اتخاذ القرارات الملائمة في أمور حياته.
وقد أدركت أغلب الحكومات الأهمية العظمى للتعليم، فهو مفتاح لتوفير أشخاص قادرين على الإنتاج بتنافسية مع الدول الأخرى، وكذلك كطريقة لفرض ثقافة موحدة لأفراد المجتمع في الدولة؛ مما يسمح بزرع قناعات مرضية للنظم والحكومات القائمة. ولهذا نجد أن أغلب دول العالم، الغني منها والفقير يولي اهتمامًا كبيرًا للمدارس، وينفق عليها نفقة كبيرة سنويًّا.
ولكن مع ذلك، تبقى عجلة التطور المدرسي متباطئة بالنسبة لغيرها من المجالات، فبينما تغيرت ملامح مهن بالكامل مثل: المحاسبة والسكرتارية والتجارة والهندسة وغيرها من المهن، ظلت ملامح مهنة التعليم في المدرسة ثابتة، ومعارضة للتغير في أغلب الأحيان.
فالذي ينظر إلى أحد فصولنا اليوم، ويقارنه بفصول المدارس في الستينيات من القرن الماضي، لن يجد الكثير من الفوارق! ربما وجد أن الكتب صارت ملونة بدلاً من طباعتها بالأبيض والأسود، ولكن المحتوى والشرح والأسئلة والواجبات والجداول المدرسية، بل والامتحانات أيضًا، كل هذه العوامل سيجد فيها تكرارًا رتيبًا، وتوقفًا بعجلة الزمن في حقبة لا يراد لها أن تتغير إلا في قشور؛ حيث يتغير ترتيب المناهج والدروس وغير ذلك من الأمور السطحية.
يضاف إلى هذا التوقف المريب في التطور في النظم المدرسية تلك المشاكل المؤسفة التي بدأت في الانتشار في المدارس، حيث نجد بلطجة متبادلة بين المدرسين والطلبة، وجرائم أخلاقية، وتجارة مخدرات، وحوادث تحرش واغتصاب، وأسلحة، بل وحوادث دهس بسيارات المدرسة للطلبة وهم بداخل المدرسة!
وإذا أضفنا إلى ذلك الضرب “للتقويم” والإهانة “لفرض النظام” والزحام الشديد في بعض الفصول (حتى يصل إلى 120 طالبًا أو أكثر في الفصل الواحد!)، فلا نجد غرابة بعدها في التدني العام للمستوى التعليمي في مصر، بسبب “احتكار” المدارس للتعليم، مع عجزها عن تطوير نفسها بما يعوض قصورها عن تحمل مسؤوليتها.
ولهذا نجد أنفسنا أمام ظاهرة عجيبة، فطلبة المدارس الذين يجبرون على النجاح الشكلي لكي ينتقلوا للسنة التالية ويخلوا المكان لمن بعدهم، قد يصل هؤلاء الطلبة إلى آخر المرحلة الابتدائية وهم يعانون من الأمية! أي أن الدولة تنفق كل تلك الأموال، ويتعب الأهل كل هذا التعب، ولكن في النهاية لا يوجد أي ضامن لتخريج طفل مؤهل نفسيًّا أو أخلاقيًّا أو تربويًّا أو علميًّا!
وهكذا تلجأ الأسر المقتدرة ماديًّا إلى عدة حلول لتجبر ما يكسره التعليم المدرسي، فيلجأون للمدرسين الخصوصيين، أو يبحثون عن مكان بصعوبة شديدة في المدارس الخاصة التي تثقل كاهل الأسرة بالمصاريف والنفقات النثرية خلال العام، وفي نهاية الأمر لا يوجد ضامن حقيقي أيضًا من حيث النواحي الأخلاقية أو التربوية، وإنما أغلب المدارس الخاصة لا تزيد فيما تقدمه عن “مكان آدمي غير مزدحم” و”المزيد من العناية في التعليم” و”بعض الدلع!”.
وحتى في تلك الحال لا يخلو الأمر من حاجة الطفل إلى مدرس خاص في أغلب تلك المدارس، وبتكلفة مضاعفة أيضًا، أو تعب الوالدين في المذاكرة مع طفلهما لتعويض ما فاته في فترة التعلم السلبي الخامل – الذي نادرًا ما يسمح فيه للطالب بالكلام أو الإدلاء برأيه أو مناقشة المعلم- خلال اليوم المدرسي الطويل الذي يحول العلم والتعلم إلى مسألة مملة ولا يحبها الطلبة.
ولهذا أيضًا نجد الطلبة لا يقبلون على تعلم أي شيء في إجازة الصيف؛ لأنهم قد سئموا كل ما يحمل اسم العلم والتعلم.
ولهذا كان لابد من حل بديل لهذه المنظومة المتهاوية، والتي ثبت عجزها عن مواكبة تطورات العلم وثورة التكنولوجيا في العصر الحديث. ومن هنا نشأت فكرة الاستغناء عن المدرسة، والعودة إلى الوحدة الأساسية الأصلب، وهي الأسرة والمجتمع المحلي من حولها؛ لحمل مسؤولية بناء الأطفال بطريقة سوية ومرنة ومتطورة.
ذلك النظام التعليمي الذي يطلق عليه في الخارج التعليم المنزلي (هومسكولنج – Homeschooling) والذي اخترنا في هذه المقالات تسميته بـ (التعليم المرن) لعدة اعتبارات: أولها أن التعليم المنزلي كلمة لا تحمل وقعًا حسنًا في الثقافة المصرية.
ولأن ما ندعو له هو نظام تعليم لا يقتصر على المنزل ولكن يمتد ليشمل نواحٍ كثيرة من الحياة في المجتمع. إن الحل هو الاستغناء عن التعليم المدرسي والعودة إلى الأصل، والأصل هو أن الأسرة والوالدين خصوصًا هما أول المسؤولين عن مصلحة الطفل.
وليس من الأمانة أن ينقلا هذه المسؤولية لمن ثبت فعليًّا أنهم غير قادرين على حملها، بل يجب على الأسرة أن تبدأ في إنشاء نظام تعليم جديد، وأن تبذل الوقت والجهد في سبيل إنقاذ أطفالها من خبرة تعليمية مملة وكئيبة تكرهه في العلم. وفي المقال القادم نناقش هذا النظام بالتفصيل, فتابعونا.

هناك تعليق واحد: