الخميس، 19 مارس 2015

التعليم ورفع سقف الطموحات

لعل من أضر الآثار التي تنتج من النمطية والتفكير التقليدي هي ما ينتج عنه من جمود التوقعات والآمال. فأنت حين تقوم بأي شيء بنفس الطريقة يكون لك دائما مجموعة من النتائج المعتادة التي تختار منها, ولا تطمح إلا لأحسن هذه الاختيارات, ونادرا ما تتعدى بالطموح إلى ما وراء ذلك. بل يمكنني أن أجزم أنك في هذه الحالة لن تعلم أصلا بوجود الأفضل ولن تفكر فيه.
ويمكننا اختبار هذا عمليا حين نطرح هذا السؤال: أنت حين ترسل ولدك للمدرسة, ماهي أفضل طموحاتك وتوقعاتك؟ (أنصحك هنا أن تتوقف عن متابعة القراءة, وتكتب هذه الطموحات في ورقة فهو تمرين مفيد, كما أرجو أن ترسل لي نسخة مما كتبته إن أمكن J )
يمكنني التوقع بكثير من الثقة أن في مقدمة الطموحات التي كتبها أولياء الأمور هي أن يحصل الطفل على "المركز الأول" أو "الدرجات النهائية". ولن أبتعد عن الواقع كثيرا لو قلت أن القليل جدا سيكتب في مقدمة ما يطمح إليه من المدرسة أن "يتعلم الطفل باستقلالية" أو "أن يحب العلم" أو "أن يكون مبدعا" ... أو "أن يصبح مخترعا"!
والسؤال هنا : لماذا ينخفض سقف توقعاتنا إلى فقط الإنجاز الأكاديمي والذي تقيسه فقط الدرجات الجامدة؟ لماذا لا يكون في مقدمة ما نطمح إليه أو نرجو تحقيقه من تعليم أطفالنا أن ينجزوا ما عجزنا عنه في سنهم؟ لا أقصد أن يحصلوا على درجات أفضل منا, ولكن أقصد أن تكون خبراتهم التعليمية أكثر جودة وأكثر تحقيقا لمعنى العلم والتعلم .  لماذا لا يكون من ضمن توقعاتنا لهم وآمالنا في تعليمهم أن يكون الطفل خبيرا في أحد المجالات المتقدمة وهو في سن المراهقة؟ (كما رأينا من قصص نجاح عظماء كثيرون مثل بيل جيتس مؤسس مايكروسوفت, والإمام حافظ حكمي الذي ألف في التاسعة عشرة من عمرة قصيدة لازالت تدرس حول العالم في علوم العقيدة وغيرهما من الأمثلة لأشخاص بلغوا حد الخبرة والتمكن في سن مبكرة) لماذا لا نطمح أن يكون لهم قدرة على القيادة والاستقلال بالحياة والتعامل مع المجتمع من سن العاشرة أو الحادية عشرة؟ لماذا لا نرجو أن يكون أحدهم كاتبا أو أديبا أو خطيبا مفوها من ماقبل سن المراهقة؟
الجواب: لقد أثقلت الدورة التقليدية للتعليم المدرسي كاهلنا, فصرنا لا نرى إلا في حيز هذه الدائرة المفرغة من "الدراسة-الامتحان-النتيجة-الانتقال للمرحلة التالية بنجاح" لقد رضينا من النظام التعليمي أن ينحصر في هذه الأدوار, ثم رضينا أن يسيطر على جدول حياتنا وتنظيمها من أجل التوافق معه, ثم أخيرا سقطنا في أسر التوقعات المرجوة منه ولم نعد نطمح إلى المزيد. لقد صرنا نصر على أن يظل أطفالنا أطفالا إلى الأبد, ورفضنا تصديق أنهم أكثر قدرة على التطور من النظام الذي يفترض فيه تطويرهم. لم يعد العقل الواعي لنا يبحث عن هذه الاحتمالات الطموحة كنتيجة للتعليم, بل صار أقصى ما نتمناه من التعليم أن يكون "حل الواجب" عملية تتم بلا صراعات, وأن تكون "أيام الامتحانات" فترة بلا توتر عصبي وحالة طواريء في المنزل ! (هنا أدعوكم إلى أن تكتبوا قائمة أخرى ولكن بتمنيات أطفالكم من وراء التعليم, هل فكرتم أن تسألوهم عما يتمنون تحقيقه من خلال التعلم؟ هل دونتم أمنياتهم هذه؟)
إنني أدعو كل ولي أمر وكل مهتم للتعليم أن يتوقف في هذه اللحظة عما يفعله! أدعوكم للجلوس لمدة دقائق في هدوء وتركيز ثم بناء سقف جديد للطموحات. أريد منكم أن تدونوا في ورقة قائمة بالأهداف التعليمية الجديدة التي تتفق مع تحديات العصر الحديث. أريد منكم أن تخلعوا قيود التعليم التقليدي, وما يفرضه عليكم من احتمالات لا تختلف كثيرا عما كنتم تتوقعونه وأنتم طلبة في المدرسة. أريد منكم أن تفكروا في تعليم جديد, وأهداف جديدة لهذا التعليم. ولكن أريدكم أن تكتبوا هذه الطموحات, لكي تخرج من حيز الأفكار إلى حيز المطالبات والتخطيط والنتائج.
ولكن : من أين نبدأ هذه القائمة الجديدة؟ مالذي نفكر فيه حين نريد أن نرفع من سقف توقعاتنا تعليميا؟
بطبيعة الحال, لست هنا في مقام من يملي عليكم ما يجب أن تطمحوا إليه في تعليم أطفالكم, فهذه في نهاية الأمر مسؤوليتكم وواجبكم. ولكن دعونا نستعرض سويا هذه الأمثلة الواقعية التي ستعينكم على كتابة قائمة جديدة من الأهداف والطموحات من وراء التعليم(ملحوظة: لقد حرصت في هذه القائمة على إيراد أمثلة من العصر الحديث, ليكون في هذا تشجيعا لكم على العمل في ظروف مشابهة من أجل نتائج أفضل وأكثر طموحا).

1- علية نوري, مؤلفة اجتماعية في سن التاسعة:
فتاة صغيرة سمراء ذات وجه خجول في حجابها المحتشم, ولكنها حين تتكلم تدرك أنها تختلف عن من تراهم في سنها من أطفال. إنها علية نوري, التي كتبت -في سن التاسعة- ثلاثة كتب عن البلطجة والتدخين والكحول وأضرارهما وكيف يتجنبها الأطفال في سنها. علية أسست موقعا لها وقناة على موقع اليوتيوب وهي عازمة على مواصلة رحلتها ككاتبة ومؤلفة.

2- ميادة حنفي, تلتحق بالجامعة في سن الثالثة عشرة
فتاة أخرى من الطالبات النابغات التي لم تلزم نفسها بالمدرسة التقليدية, فدرست بجهد وانتقلت بسرعة بين المراحل التعليمية لتنهي تعليمها المدرسي في الثانية عشرة من عمرها, ثم تنجح في الالتحاق بالجامعة في سن الثالثة عشرة. ميادة ليست فقط طالبة مجتهدة أو "دودة كتب" كما يقولون في التعبير الشائع. فهي أيضا تشعر بالمسؤولية تجاه مجتمعها, وتقوم بعمل حلقات أسبوعية للجالية المسلمة في حيها بأمريكا حيث تقوم بتدريس اللغة العربية والقرآن الكريم للأطفال تطوعا منها بذلك.
3- (بيه يونج) مخترعة في سن السادسة تقلد البيئة لتجعل الحياة أفضل.
هذه الطفلة الشقية التي تشبه الدمية المنمقة, لم يمنعها اللعب واللهو من التفكير في تخفيف معاناة من يضطرون للوقوف في الشوارع الحارة ببلدها ماليزيا. فقامت بالتفكير في اختراع يقوم بالترطيب عل الواقفين في الحر, من خلال أنبوب يمتص المياة من كيس صغير ثم يقوم ببعثه في صورة رذاذ ملطف للحرارة حول من يرتدي الاختراع. استقت الطفلة هذه الفكرة من مراقبتها للطبيعة, وكيف تكون الحرارة أقل كثيرا بالقرب من بعض النباتات التي تخرج بخار الماء البارد وتلطف من الحرارة. وقد عرضت الفكرة على أبيها الذي بادر بتشجيعها وصناعة نموذج أولي, ثم تسجيل الاختراع بإسمها بعد التأكد من فاعليته.

4- الفتى المراهق الذي يحمي البيئة.
(بارام چاجي) هذا الفتى الذي لم يتم عامه السابع عشر قد أكثر من التفكير في مشاكل البيئة والتلوث. وأحس بخطورة العوادم والاحتراق على الجو والتنفس. فهداه تفكيره إلى اختراع "فيلتر" يتم تثبيته عند مخرج العادم في السيارات , ويحتوي على بعض أنواع الطحالب التي تقوم بعمل يشبه التمثيل الضوئي, فتمتص أول وثاني أكسيد الكاربون ثم تقوم بتحويلها إلى غازات غير مضرة وبخار ماء. وبهذه الفكرة البسيطة قد يمكن تقليل التلوث الناجم من العربات بنسبة كبيرة, وقد قام الفتى بتسجيل اختراعه تمهيدا لطرحه في الأسواق.

5- (نيكولاس روبين) الفتى المراهق الذي يحمي مجتمعه.
أحس هذا الفتى بأهمية الوعي السياسي في المجتمع, وأن الكثيرين يكتفون بمتابعة الدعاية السطحية للمرشحين وليس التحليل الدقيق لتصرفاتهم وبرامجهم ومن يدعمهم. فقام بعمل برنامج بسيط يتم إضافته على الحاسب الآلي, حيث يقوم هذا البرنامج بعرض المرشحين للانتخابات المحلية والنيابية في بلدته, ثم يعرض لكل منهم قائمة من يقومون بتمويل حملاتهم الانتخابية والإنفاق على الدعاية لهم. هذه القائمة تمثل بالضرورة من له مصلحة مباشرة في نجاح المرشح, ومن لهم تأثير قوي على مواقفه السياسية والرسمية. هذه الفكرة الفريدة تسمح للناخبين برفع الوعي حول دوافع كل مرشح وتقييمهم بطريقة موضوعية.

وهكذا بعد استعراض هذه النماذج من الناجحين في سن مبكرة, يمكننا أن نلاحظ هذه العوامل المشتركة بينهم:
1- الدعم من الأسرة قبل أي أحد, فأسرهم قد آمنت بقدرتهم وشجعتهم على اكتشاف ما يمكنهم عمله.
2- الأمر لا يحتاج عبقرية فذة أو ذكاء فوق الخيال, فأغلب ما احتاجوه هو الصبر والمحاولة المستمرة وبعض البحث والتفكير البسيط وليس المركب.
3- الإمكانيات المادية ليست هي العامل الرئيسي في  النجاح, بل إن ما يميز أغلب الأفكار الناجحة في الحياة هو بساطتها واعتمادها على المتاح من إمكانيات, فعمليا لن يمكن حل مشكلة بتكلفة أكبر مما يتحمله صاحبها.
4- الوعي بالذات وبالمجتمع من السمات المميزة لهؤلاء الناجحين بينما يتقوقع الطالب في المعتاد حول نفسه, ويجد أن مهمته في الحياة أن يكون طالبا وأن يحصل الدرجات. أما هؤلاء فقد تربوا على أنهم بشر وليسوا طلبة, وأن كل منهم هو إنسان مكتمل الأهلية, وعليه واجب تجاه نفسه ومجتمعه.

إن المتأمل في هذه القصص وغيرها من قصص النجاح, سيجد أن الأمر مفتاحه الأساسي هو التغيير العقلي. فحين تتغير أفكارك وتوقعاتك عن أي أمر من الأمور, حينها ستجد أنك تتحرك في مسارات جديدة لم تكن تخطر لك ببال, وستجد أن في إمكانك أن تقوم بالكثير وأن الحياة ليست مسارا مغلقا لابد لك من السير فيه بالطريقة المعتادة... إن افكارك قد تكون سجنك الخاص الذي لا تراه, وهي أيضا ما يحررك إلى آفاق أوسع وحياة أكثر حركة وإنجازا.

التعليم بين تزمت أكاديمي وتخبيط تطبيقي

من الأمور الملحوظة لكل قاريء في مجال التعليم بالعربية وما نشر فيه من كتب أن هناك انفصام شبه تام بين الأكاديميين (الباحثين وأصحاب الدرجات العلمية) في التعليم وبين التطبيقيين الذين يكتبون تجارب أو آراء أو رؤى خاصة بهم وغالبا ما لا تنضبط بقواعد البحث العلمي.
هذه الانفصالية مشكلتها في إحداث فجوة –وأشك في أنها غير متعمدة- بين ما يسعى إليه الكاتب الأكاديمي (الذي غالبا ما تجده يخلط بطريقة مزرية بين البحث العلمي والكتاب المطبوع) وبين الكاتب التطبيقي (الذي غالبا ما يكيف الشواهد لتوائم نظريته الشخصية عن التعليم وتطويره). وتكون النتيجة من وجود هذه الفجوة أن تكون كتب الأكاديميين على الرف, وينحصر التجديد في التطبيق على الجهود والرؤى الفردية للممارس التطبيقي أو لقاريء الكتب التطبيقية التي غالبا ما تتناقض مع بعضها أو تحوي مغالطات لأنها لم تكتب تحت إشراف علمي محايد ولا بأسلوب علمي رصين.

فمثلا قد تجد كتابا لإحدى صاحبات الدكتوراة في التعليم عن مهارات الاستذكار الفعالة. تفتح الكتاب فإذا بها قد نسخت رسالتها نصا بما تحويه من مقارنة بين التعريفات, وإيراد لنصوصها نقلا عن المراجع, وتكرار المشترك بينها لأنها –تبعا لقواعد الكتابة العلمية- لابد أن تنقل الكلام بنصه من المصدر... كل هذا مفيد ومهم في البحث العلمي المنضبط, ولكننا إذا أردنا أن نخرج إلى حيز التطبيق فلابد من تحوير الوثيقة العلمية وتغيير شكلها بحيث تكون مناسبة للمطالعة بهدف التطبيق العملي.
أيضا قد تفتح كتابا لأحد التطبيقيين, فتجده يغرق في وصف تجربته الشخصية أو رؤيته حول أسلوب التعليم السليم, ثم يورد كلمات مبهمة من نوعية "وتشير الأبحاث إلى كذا وكذا..." دون أن يشير إلى مصدر البحث ولا دقته ولا مدى حداثته, ولا كيفية التأكد من صحة ما استنتجه من كلام, فيكفي في نظره أن يقول كلمة الأبحاث لينبهر القاريء ويسلم بالرأي بلا تردد. وللأسف كثيرا ما نجد الكاتب يلوي النتيجة البحثية ليبرهن بها على ما يراه. ومادام المكتوب لم يتم مراجعته من جهة محايدة فيبقى هناك مجال متسع للشك في دقة الكاتب وتجرده.
وهكذا نجد أنفسنا مابين دائرتين مفرغتين: الأولى من كتاب أكاديميين يكتب بعضهم لبعض, فهم يتبادلون الأبحاث ويديلونها بينهم. والثانية من كتاب لا رابط بينهم تقريبا فكل منهم يكتب ويناقض الآخرين بل أحيانا يناقض نفسه, ثم يتركون ما كتبوا كغابة متشابكة للمعلم أو المربي الذي يريد تحسين العملية التعليمية.
إن هذه المشكلة الخطيرة هي من أهم عوامل جمود التطور التعليمي في  مجتمعنا لأنها تجعل القاريء إما مثقلا بقراءة النصوص الأكاديمية التي تحوي تفاصيل لا يحتاج إليها كمطبق للتعليم أو مشتتا بقراءة أهواء شخصية في التعليم لا يمكنه التأكد من دقتها وانضباطها علميا. ومن الدلائل على ذلك أننا نجد أغلب المعلمين بعد تخرجهم لا يطالعون أي أبحاث تعليمية تقريبا, فالمعلم ما بين التحضير والتصحيح والتدريس لا يجد وقتا لمطالعة الجديد, ولو وجد الوقت فلن يجد المصدر الذي يستقي نتائج هذه الأبحاث بطريقة جاهزة للتطبيق.
إنني حين أقارن هذه الحالة بما أقرؤه من مقالات أجنبية تقوم أساسا على استخراج نتائج الأبحاث العلمية ثم صياغتها بطريقة مشوقة وتحت عنوان ملفت, بحيث تأخذ خلاصة البحث فيما لا يزيد عن 800 كلمة أو 1000 كلمة, مع ذكر المصدر أو المصادر لمن أراد الاستزادة, حينما أطالع هذه المقالات في العديد من المواقع المتخصصة عن التعليم أدرك جيدا لماذا تحول التعليم عند هؤلاء من معبد مغلق على مهنته إلى قضية تهم كل أعضاء المجتمع من كل الأعمار والتخصصات.
لقد حان الوقت لهدم معبد التعليم المتحنط وتحويله إلى حديقة غناء منسقة, لا فوضى فيها ولا كهنوت. حان الوقت أن يقوم بعض المخلصين باستخراج كنوز البحث العلمي في التعليم, وأخذ نتائجه وطرحها لعموم المربين والمعلمين. حان الوقت لكي نجد معلمين ومربين يعلمون أن هناك ما يدعى بال Growth Mindset  و ال Deeper Learning  و المدارس المصممة بمفهوم ال Design thinking  وال  Project-Based Learning وأن هناك أبحاث ونتائج عملية عن الفارق بين الكتاب المطبوع والكتاب الإلكتروني, ومتى يصلح كل منهما, وأن هناك ألعابا تدرب أطفالكم على كل شيء من الجغرافيا إلى فن الجدال. حان الوقت ليكون المربي  المثقف حقيقة عادية وليس فلتة نادرة وجهد شخصي.
فلنغلق تلك الفجوة بين الأكاديمي والتطبيقي  وننشر غسيل التعليم بكل ألوانه على الملأ.


ملحوظة: إليكم بعض المصادر المهمة في تطوير التعليم والتي تقوم بما وصفته من دمج الأبحاث بالتطبيق المباشر